فصل: وجه المناسبة بين الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التحليل اللفظي:

{السفهاء}: أصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسخ خفيفه، أو كان باليًا رقيقًا، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة:
مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ ** أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ

والسّفه: ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [النساء: 5].
{ولاهم}: يعني صرفهم، يقال: ولّى عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب.
{قِبْلَتِهِ}: القبلة من المقابلة وهي المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة.
{وَسَطًا}: أي عدولًا خيارًا، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي خيرهم أو عدلهم، قال الشاعر:
هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم ** إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم

وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان.
قال الجوهري في الصحاح: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلًا، وكذلك روي عن الأخفش، والخليل.
وقال الزمخشري: وقيل للخيار وسطٌ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام.
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ** بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفًا

{عَقِبَيْهِ}: العقبان: تثنية عقب، وهو مؤخر القدم، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع، يُقال: انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء.
والمعنى: لنعلم من يثبت على الإيمان، ممّن يرتد عن دين الإسلام، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال، والكلام فيه استعارة كما سيأتي.
{لَكَبِيرَةً}: أي شاقة ثقيلة تقول: كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل.
{لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}: الرأفة هي الرحمة، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب.
{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: تقلّبُ الوجه في السماء: ترّدده المرة بعد المرة فيها، والسماءُ مصدر الوحي، وقبلة الدعاء.
قال الزجاج: المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء.
وقال قطرب: تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان.
ومعنى الآية: كثيرًا ما نرى تردّد وجهك، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقًا لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً}: أي لنمكننّك من استقبالها، من قولك: وليّتُه كذا إذا جعلته واليًا له، فيكون من الولاية، أو من التولي، والمعنى: فلنجعلنّك متوليًا جهتها، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب.
{شَطْرَ المسجد}: والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر:
أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي ** صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم

ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان».
والشاطر: الشاب البعيد عن أهله ومنزله، وهو من أعيا أهله خُبْثًا، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال: هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه.
ومعنى الآية: فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة.
{أُوتُواْ الكتاب}: المراد بهم أحبار اليهود، وعلماء النصارى، والكتابُ: التوراةُ والإنجيل.

.وجه المناسبة بين الآيات:

كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، وقد كان اليهود يقولون: يخالفنا محمد في ديننا، ويتّبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته، فكره النبي صلى الله عليه وسلم البقاء على قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال، من اليهود المنافقين، قبل تحويل القبلة، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم، وقد قيل في الأمثال مثل الرمي يراشُ السهم وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: سيقول السفهاء من الناس- وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين- ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم؟ قل لهم يا محمد: لله المشرق والمغرب، الجهات كلّها لله، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة، يهدي من شاء من عباده، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين.
وكما هديناكم- أيها المؤمنون- فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل، فجعلناكم أمة عدولًا خيارًا، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين، فينافق أو يكفر، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات، وما كان الله ليضيع صلاتكم، إن الله رحيم بعباده، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء.
كثيرًا ما رأينا تردّد بصرك- يا محمد- جهة السماء، تطلعًا للوحي وتشوقًا لتحويل القبلة، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام، وأنتم- أيها المؤمنون- استقبلوا بصلاتكم جهته أيضًا، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين، ليشككوهم في دينهم، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن، المحاسب على ما في السرائر.

.سبب النزول:

أ- أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
ب- وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.

.وجوه القراءات:

أولًا: قرأ الجمهور {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} بالمد في {رءوف} مع الهمز على وزن فعول، وقرأ الكسائي وحمزة {لَرَءُوفٌ} على وزن رَعُف، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز، قال جرير:
ترى للمسلمين عليكَ حقًا ** كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم

ثانيًا: قرأ الجمهور {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالياء في {يَعْمَلُونَ} فيكون وعيدًا لأهل الكتاب، وقرأ الحمزة والكسائي {عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالتاء فيكون وعيدًا للفريقين: المؤمنين والكافرين.

.وجوه الإعراب:

أولًا: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: كما هديناكم جعلناكم أمة وسطًا، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطًا، وأمة مفعول ثانٍ لجعلنا، ووسطًا صفة لها.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} إنْ مخففة من إنّ الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام في قوله: {لكبيرة} للفرق بين المخففة والنافية، كما في قوله تعالى: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] وزعم الكوفيون أنها نافية، واللام بمعنى إلاّ، أي ما كانت إلا كبيرة، قال العكبري: وهو ضعيف جدًا من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة، والإخبار فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على صدق ما جاء به، لأنه إخبار عن أمر مغيّب، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد.
قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردّ لشَغَبه، وقبل الرمي يُراش السهم.
اللطيفة الثانية:
ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء اليهود، والمشركين، والمنافقين في قوله جل وعلا: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وتقريره أنّ الجهات كلها لله تعالى، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب، واتباع أمره في توجه الوجوه.
فكيف يعترضون عليك يا محمد؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام، سفهاء الأحلام.
اللطيفة الثالثة:
التعبير بقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} فيه لطيفة، وهي أن خير الأمور أوساطها، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقصُ عنه تفريط وتقصير، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي التوسط بينهما.
وذكر ابن جرير الطبري: أنه من التوسط في الدين، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود، الذين قتلوا الأنبياء، وبدّلوا كتاب الله، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله، وغلوا في الترهيب غلوًا كبيرًا، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
اللطيفة الرابعة:
في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا- وهو أعلم- فيؤتى بأمة محمد فيشهدون، فتقول الأمم: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ فيقولون: نشهد بإخبار الله عز وجل الناطق، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ»، فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
اللطيفة الخامسة:
قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} أوّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: معنى لنعلم لنرى. والعرب تضع العلم ماكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] بمعنى: ألم تعلم.
قال الطبري: الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها، وإنما تأويل الآية: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي ليعلم رسولي وأوليائي، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس، نحو فتح عمر سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه.
وقال ابن عباس: المعنى: لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ففسّر العلم بالتمييز لأن بالعلم يقع التمييز.
وقال الزمخشري في الكشاف: المراد بالعلم علم المعاينة الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142].
اللطيفة السادسة:
في قوله تعالى: {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} [المدثر: 23].
اللطيفة السابعة:
سمّى الله تعالى الصلاة إيمانًا في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها، ولأنها تشتمل على نيّة، وقول، وعمل.
قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، لما روي عن ابن عباس أنه قال: لمّا وُجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا يا رسول الله: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
ثمّ قال: فسمّى الصلاة إيمانًا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
قال مالك: وفيه رد على من قال: إن الصلاة ليست من الإيمان.
اللطيفة الثامنة:
قال الزمخشري: إنّ قد هنا بمعنى ربما وهي للتكثير، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر:
قد أتركُ القِرْنَ مصفَرًّا أناملُه ** كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد

قال أبو حيان: التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثًا لا يقال: إنه قلّب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير.
والتعبير بقوله تعالى: {قَدْ نرى} بمعنى قد رأينا، لأن {قَدْ} تقلب المضارع ماضيًا كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} [الأحزاب: 18] وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] أي قد علمنا.
اللطيفة التاسعة:
قال المحققون من أهل التفسير: في قوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} وفي سبب محبته عليه الصلاة والسلام التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه:
الأول: مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون: يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل.
الثاني: أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمن.
الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام.
الرابع: منشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلتده ومنشئه.
اللطيفة العاشرة:
في التعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، والسرّ في الأمر بالتولية خاصًا وعامًا {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} مع أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم، لأن الأمر بالصرف كان فيها، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية.
قال الراغب: أما خطابه الخاص فتشريفًا له وإيجابًا لرغبته عليه الصلاة والسلام، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ عليه الصلاة والسلام به، كما خُصّ في قوله: {قُمِ اليل} [المزمل: 2]، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد.